سياسة الأرض المحروقة: الاستراتيجية الكارثية في الحروب والصراعات

مقدمة

تعد سياسة الأرض المحروقة واحدة من أكثر استراتيجيات الحروب قسوةً وتدميراً في التاريخ البشري. إنها سياسة لا تهدف فقط إلى الانتصار العسكري على الخصم، بل تسعى إلى تدمير كل ما يمكن أن يشكل دعماً أو مورداً له، بما في ذلك الأراضي، والبنية التحتية، والمحاصيل، والموارد الاقتصادية، وحتى المدنيين أحياناً. عرفت هذه السياسة استخداماً واسع النطاق عبر العصور، من العصور القديمة إلى الحروب الحديثة، وقد ارتبطت غالباً بجرائم حرب وكوارث إنسانية مروعة، تاركةً وراءها آثاراً مدمرة على البشر والطبيعة والمجتمعات.

تعريف سياسة الأرض المحروقة

تشير سياسة الأرض المحروقة (Scorched Earth Policy) إلى استراتيجية عسكرية يُعمد فيها إلى تدمير كل ما يمكن أن يستفيد منه العدو أثناء التقدم أو التراجع. تشمل هذه السياسة حرق المحاصيل، تسميم مصادر المياه، تدمير البنى التحتية الحيوية مثل الجسور والطرق، وتهجير السكان بالقوة أو قتلهم، من أجل إضعاف العدو وإحباط جهوده في الاستمرار بالقتال أو في السيطرة على الأرض.

تطبق هذه السياسة عادة في ظروف يكون فيها الجيش المنفذ في وضع دفاعي، فيحاول تقويض قدرات العدو عبر حرمانه من أي دعم محلي، وقد تُستخدم أيضاً عند التقدم في أراضٍ معادية لمنع المقاومة من استخدام الموارد المتبقية.

الجذور التاريخية

لم تكن سياسة الأرض المحروقة وليدة الحروب الحديثة، بل ظهرت في التاريخ منذ العصور القديمة. في العصور الإغريقية، وردت إشارات إلى استخدام الإغريق القدماء لها خلال صراعاتهم مع الأعداء، حيث كانوا يحرقون المدن والمزارع قبل الانسحاب منها. كذلك اعتمدت الإمبراطورية الرومانية هذه السياسة في العديد من غزواتها، إذ لجأ القادة الرومان إلى حرق كل ما يمكن أن يستخدمه العدو في إعادة تنظيم صفوفه أو الهجوم المضاد.

وفي العصور الوسطى، استخدمت الجيوش المغولية سياسة الأرض المحروقة ضمن تكتيكاتها العسكرية المرعبة، حيث كانت تدمر كل شيء في طريقها، لا سيما خلال حملات جنكيز خان.

أبرز الأمثلة التاريخية

1. سياسة الأرض المحروقة خلال الغزو النابليوني لروسيا (1812)

يُعتبر غزو نابليون بونابرت لروسيا عام 1812 من أبرز الأمثلة على تأثير سياسة الأرض المحروقة. عند دخول الجيش الفرنسي للأراضي الروسية، واجه مقاومة غير تقليدية. عمد الروس إلى حرق المدن والقرى، بما في ذلك العاصمة موسكو، وتدمير المحاصيل والمخازن قبل أن يصل إليها الجيش الفرنسي، ما أدى إلى نقص حاد في الإمدادات الغذائية والمؤن. ومع حلول الشتاء الروسي القارس، انهار الجيش الفرنسي وتكبد خسائر فادحة، ولم يعد سوى القليل من الجنود إلى فرنسا.

2. الحرب الأهلية الأمريكية (1861-1865)

في الحرب الأهلية الأمريكية، استخدم الجنرال ويليام شيرمان سياسة الأرض المحروقة خلال ما عرف بـ”مسيرة شيرمان إلى البحر” (Sherman’s March to the Sea) سنة 1864. انطلقت قواته من مدينة أتلانتا إلى سافانا، مدمرةً كل شيء في طريقها، من السكك الحديدية إلى المحاصيل والمنازل. هدفت هذه الحملة إلى تحطيم الإرادة الجنوبية في مواصلة القتال، وقد ساهمت بفاعلية في التعجيل بانتهاء الحرب.

3. الحرب العالمية الثانية

خلال الحرب العالمية الثانية، لجأ الطرفان – الحلفاء والمحور – إلى استخدام سياسة الأرض المحروقة. استخدم الاتحاد السوفيتي هذه السياسة عند التراجع أمام الغزو النازي، فأحرق القرى ودمر الجسور والسكك الحديدية والمصانع ليمنع الألمان من استخدام الموارد. بالمقابل، لم يتوانَ الجيش الألماني عن تدمير كل شيء أثناء انسحابه من الأراضي المحتلة في أوروبا الشرقية.

4. حرب فيتنام

اعتمد الجيش الأمريكي سياسة شبيهة بالأرض المحروقة خلال حرب فيتنام، لا سيما باستخدام المواد الكيميائية مثل “العامل البرتقالي” (Agent Orange) لتدمير الغابات والمحاصيل الزراعية، من أجل حرمان مقاتلي “الفيت كونغ” من الغطاء النباتي والمأوى والموارد الغذائية. إلا أن هذه السياسة خلفت آثاراً بيئية وصحية كارثية على مدى عقود.

الأبعاد الأخلاقية والقانونية

أثارت سياسة الأرض المحروقة جدلاً كبيراً من الناحية الأخلاقية والقانونية. فهي غالباً ما تُطبق دون تمييز بين الأهداف العسكرية والمدنية، ما يجعلها تُصنَّف ضمن الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي الإنساني، لا سيما اتفاقيات جنيف التي تحظر استهداف المدنيين والبنية التحتية المدنية خلال النزاعات المسلحة.

ورغم أن بعض الدول تبرر استخدامها لهذه السياسة باعتبارها إجراءً ضرورياً لضمان النصر العسكري أو لحماية أمنها القومي، فإن الغالبية الساحقة من المراقبين والباحثين ترى فيها جريمة ضد الإنسانية، لما تسببه من معاناة بشرية واسعة ودمار طويل الأمد.

الأثر البيئي لسياسة الأرض المحروقة

تتسبب سياسة الأرض المحروقة في كوارث بيئية جسيمة، تشمل:

• تدمير الغطاء النباتي: يؤدي حرق الغابات والمزارع إلى تدهور التربة، وزيادة التصحر، وانقراض أنواع محلية من النباتات والحيوانات.

• تلوث مصادر المياه: استخدام المواد الكيميائية أو تسميم الآبار يخلّف آثاراً طويلة الأمد على جودة المياه وصحة السكان.

• انبعاثات الكربون: ينتج عن الحرائق واسعة النطاق كميات ضخمة من ثاني أكسيد الكربون، مما يسهم في تفاقم ظاهرة الاحتباس الحراري.

• فقدان التنوع البيولوجي: يؤثر التدمير المتعمد للبيئة على النظم البيئية ويهدد استقرارها على المدى الطويل.

التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية

لا تقتصر آثار سياسة الأرض المحروقة على الجوانب العسكرية أو البيئية، بل تمتد لتشمل تأثيرات اقتصادية واجتماعية كارثية:

• انهيار الاقتصاد المحلي: تدمير البنى التحتية الزراعية والصناعية يوقف عجلة الإنتاج، ويؤدي إلى فقر واسع النطاق.

• تشريد السكان: تؤدي هذه السياسة إلى تهجير مئات الآلاف، بل ملايين من المدنيين، مما يخلق أزمات لاجئين ومشاكل إنسانية ضخمة.

• انعدام الأمن الغذائي: حرق المحاصيل وتدمير مخازن الطعام يسبب مجاعات في كثير من الحالات.

• تدهور النسيج الاجتماعي: تفكك المجتمعات المحلية بسبب النزوح والدمار يخلّف آثاراً نفسية واجتماعية عميقة تستمر لأجيال.

مقارنة بين تطبيقات السياسة

رؤية في القانون الدولي

وفق القانون الدولي الإنساني، تعد سياسة الأرض المحروقة مخالفةً صريحة للمبادئ الأساسية لحماية المدنيين، إلا في حال كانت هناك ضرورة عسكرية واضحة ومباشرة. تنص المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف على:

“يُحظر مهاجمة أو تدمير أو نقل أو جعل عديم الفائدة للأعيان والمواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين، مثل المواد الغذائية، والزراعة، ومصادر مياه الشرب.”

لكن بعض الأطراف تتحايل على هذه النصوص بتقديم مبررات غامضة حول “الضرورة العسكرية”، ما يجعل المحاسبة القانونية الفعلية محدودة ومعقدة، خاصة في النزاعات الداخلية أو الحروب غير النظامية.

السياسة في سياق الحروب الحديثة

في النزاعات الحديثة مثل الحرب في سوريا، واليمن، وليبيا، لوحظت ممارسات تشبه سياسة الأرض المحروقة، وإن كانت غير معلنة رسمياً. فقد شملت تدمير ممنهج للمستشفيات والبنية التحتية، ما أدى إلى انهيار شبه كامل في بعض المناطق، ونزوح ملايين المدنيين. هذه السياسات، رغم اختلاف المسميات، تندرج ضمن الفهم المعاصر لمفهوم الأرض المحروقة، وتؤكد استمرار هذه الاستراتيجية في الحروب المعاصرة، خاصة في الصراعات ذات الطابع الطائفي أو الإقليمي.

خاتمة

تمثل سياسة الأرض المحروقة أحد أكثر التكتيكات العسكرية وحشية في تاريخ الحروب، ليس فقط لأنها تستهدف العدو بشكل مباشر، بل لأنها تنسف الحياة المدنية والبيئة والاقتصاد بطريقة تجعل التعافي منها صعباً على المدى الطويل. وبالرغم من تطور القانون الدولي الإنساني وسعيه لحماية المدنيين، فإن استمرار استخدام هذه السياسة، سواء بشكل مباشر أو تحت مسميات أخرى، يثير تساؤلات عميقة حول مدى التزام الدول والقادة العسكريين بالأخلاقيات والمعايير الدولية. ومن الواضح أن أي استخدام لهذه السياسة لا يقتصر ضرره على ساحة المعركة، بل يمتد ليشوه المجتمعات ويعمق جراحها لسنوات، إن لم يكن لعقود.

المصادر:

1. Geneva Conventions, Protocol Additional to the Geneva Conventions of 12 August 1949 (Protocol I), 1977.

2. Keegan, John. A History of Warfare. Vintage, 1994.